الولد عاشق العصافير


كانت مشكلة ابي جميل هي ابنه اليافع جميل . فهذا الولد البالغ من العمر عشر سنوات ، بخلاف اخوته الثلاثة الصغار ، يحب دائماً مرافقة ابيه بائع العصافير الى سوق الأحد على طريق النهر ، لينكّد عليه عمله بإبداء عطفه على هذه المخلوقات الجميلة الصغيرة ، لدرجة أنه يحزن حين يبيع ابوه عصفوراً يكسب منه ما يقوم بأوده وأود اطفاله . ولو لم يكن ابو جميل بحاجة الى عون ابنه لما تركه يأتي معه الى السوق . فهو يعلم جيداً كم يحب هذا الولد الطيور ويحنو عليها ، بحيث يقرع اذني ابيه البائس بضرورة الإقلاع عن هذه التجارة والبحث عن عمل افضل من الإتجار بهذه الأرواح البريئة . فهناك قفصان يحملهما الوالد وقفص ثالث يحمله الولد عاشق العصافير .
وفي الحقيقة حاول هذا الرجل الذي لا يجيد أية صنعة ، العمل في مجالات اخرى ، لكنه لم يوفق. وآخر عمل ، وكان ذلك منذ سنتين ، حمال في المرفأ ، فآلمه ظهره كثيراً . غير أنه بيع الطيور ليس متعباً ، وإنه كانت مكاسبه ضئيلة . لأن المشترين قلة، بسبب سوء الأوضاع الحياتية. والناس ما تكاد تكسب نقوداً تكفي لإنفاقها على الخبز والطعام وإكساء الأبناء وتعليمهم في المدارس التي تأكل الأخضر واليابس .

المدارس تخرب البيت . فهو باع مصاغ زوجته واستدان من جميع اقاربه واقاربها لكي يستطيع دفع الأقساط المدرسية برغم ضآلة المبلغ الذي يدفعه في المدرسة المجانية فالكتب تتغير طبعاتها كل سنة ، وبالتالي لا يستفيد ابناؤه الذين هم اصغر سناً من كتب اخوتهم الأكبر سناً . وعلى كل حال فهو يعتبر نفسه محظوظاً قياساً الى كثيرين غيره . فبيته الوضيع في حي بئر حسن المخصص للفقراء، يكفيه عناء دفع الإيجار. صحيح انه مجرد كوخ حقير، لكنه يستره وعياله.

لكن هذا الولد الذي هو الأثير لديه ، والذي لا يحب ان يقسو عليه ، يزعجه بإستمرار عندما يتدخل في عمله . هذا الحسون مريض يا أبي. لم يأكل طعامه المكون من القنبز وقطع من أوراق الخس . حتى انه لم يشرب الماء المخصص له .

وينهره الولد: الله لا يرده. قد نبيعه اليوم ونتخلص منه .

لكنه مريض يا أبي. انا متأكد من انه يتألم ...

ما رأيك يا ولد لو نأخذه الى الطبيب وندفع معاينة له بالدولار ؟ هذا ما ينقصنا ...

يصمت الولد وقد ادرك ان اباه يسخر منه . مسكين ابي . لو كان يستطيع دفع معاينة لذهب هو الى الطبيب بدلاً من هذه اللزقات التي يضعها على ظهره معظم الأيام . ولداوى أمي التي تشكو من ألم دائم في معدتها تعالجه بشرب

البابونج والنعناع . ولولا المستوصف الخيري لمات أخي الأصغر حين أصيب باليرقان .

كان جميل يفكر بكل هذا وهو في البوسطة مع أبيه جالسين على المقعد الخلفي مع أقفاصهما الثلاثة. ومن آن لآخر يتطلع الى الحسون المريض بادي القلق ، حتى أنه ليحس بدموع متجمدة في عينيه. ويتذكر أنه ذات ليلة فتح القفص واطلق سراح كناري جميل ذي تغريد رائع ، كان ابوه يدعوه بالأستاذ ، لأن أباه اتفق مع القصاب عباس المعروف بقسوته ، على بيعه له. ويومها ، عندما اكتشف أبو جميل الأمر ، اقسم الولد على أنه لم يقم بهذه الفعلة. وقد رست التهمة على أخيه الذي يليه سناً، لأنه قال حينما علم بأن المشتري سيكون ذاك القصاب: حرام تبيع هذا العصفور الوديع لهذا الرجل الفظ يا أبي...

لقد أنبه ضميره حين حرم ابوه اخاه من المصروف ،عقاباً له. لكنه لم يجرؤ على الإعتراف ، بالعاً معاناة أخيه على مضض، مكفراً عن ذلك باقتسام مصروفه معه.

في سوق الأحد كان جميل واجماص حزيناً ، فيما ابوه يساوم البعض على بيع "حبات" من الأقفاص. وتضاعف وجومه وحزنه حينما تركزت الصفقة على الحسون. غير انه استغل فرصة إنهماك والده في الكلام مع بائع عصافير آخر، وهمس للرجل الذي ينوي شراء بعض العصافير بما فيها الحسون : هذا الحسون مريض ، فلا تشتره ...

فجفل الرجل وانصرف لا يلوي على شيء ، غير ملتفت الى البائع الذي يناديه بإلحاح .

ولسوء الحظ، كان هذا الرجل هو الوحيد الذي ساوم ابا جميل على شراء بعض "الحبات". وها قد انتصف النهار من دون ان يبيع أياً من عصافيره . وبقدر ما كان هو متبرماً بالحياة متأففاً ، كان الولد جميل منشرحاً ، وقد زال عنه الوجوم والحزن. وحين خفت الحركة في السوق، تضاعف إحساس الوالد بالأسى. بعد ساعة أو ساعتين على الأكثر لن يبقى في السوق احد. وهذا معناه انه لم يكسب ما ينفق به على أسرته لعدة أيام. ما العمل؟ يتطلع إلى السماء كمن يستغيث بالله . كل ما يملك هو في هذه الاقفاص الثلاثة . ليس معه من النقود ما يبتاع به قنبزاً لطيوره. لقد وعد امرأته بشراء حذاء لها بعدما بلي حذاؤها القديم . من العيب أن تذهب المرأة الى البقال الذي يقرضهم الأرز والعدس للمجدرة ، وهي منتعلة الشحاطة البلاستيك. رباه أغثني ، رحمة بهؤلاء الأطفال المساكين.

يشعر جميل الذي انتقل الى وجهه غم أبيه، ان الله يعاقبهم اليوم لأنه في ما خص عصفور الكناري كذب واقسم زوراً. فيقسم مجدداً على عدم إقتراف خطيئة الكذب مرة أخرى. سامحني يا الله ولن اكذب مطلقاً ولو على قطع رأسي.

يقترب رجل كهل من الأقفاص معرباً عن رغبته في شراء ببغاء ، شريطة ان تكون معلمة ، تتكلم جيداً .

عندي ببغاء من اصل هندي، هذا هو طلبك أيها السيد.

أخرج الببغاء ذات الألوان البديعة ، وإن كانت تبدو سقيمة، او متوعكة المزاج على الأقل. إذ بدت متوترة. وافصحت عن غضبها بإطلاق شتيمة بذيئة. وتذكر ابو جميل أنه إبتاع هذه المخلوقة التعيسة من امرأة قوادة سليطة اللسان، تدير بيتاً للبغاء السري . لكنها تتكلم على الأقل...

وكان الرجل الكهل محتاراً بين الشراء وعدمه. فهذه الببغاء معلمة لكنها كما تبدو لا تجيد إلا السباب، وبأقبح العبارات. وعبثاً سعى ابو جميل لإقناعه بأن الجملة التي سمعها لم تكن: أسكتي.. يا شلكة... بل: أسكتي... يا شلقة...

ولما فطن الرجل الكهل الى انه يعيش بمفرده بعد وفاة امرأته، وليس له ابناء، ولانه اراد ان يسلي نفسه وبعض اصحابه الخبثاء الذين يترددون على منزله، قبل بشراء هذه المخلوقة الثرثارة البذيئة، لكن بالثمن البخس . لن ادفع اكثر من مائتي دولار. خذها عني . فهي سليطة فاحشة...
ويقسم ابو جميل بأنه دفع ثمنها اكثر من ذلك... لكنه رضخ في النهاية وباعها بمائتي وثلاثة دولارات. لا بأس. المكسب عشرة دولارات .افضل من لا شيء. ما كان ليدفع اكثر .

في البيت، حسب ابو جميل كم يبقى معه بعد شراء العلف للطيور . اقل من خمسة دولارات . ثمانية الآف ليرة ، لا تكفي لمصروف يوم كامل. والحذاء للمرأة ؟ لندعه الى الأسبوع القادم، عل الله يفتحها علينا ببيع "حبات" من البضاعة. وعلى كل حال.... غداً لن نضطر للإستدانة من البقال ثمن الأرز والعدس.

لم يكن الولد جميل واخوته يدركون شيئاً مما يتفاعل في نفس أبيهم، ولا يعلمون بحقيقة معاناة امهم مع حذائها البالي . فكل ما يهمهم هو اللعب بعد المدرسة . والمجدرة مؤمنة دائماً . وفي الواقع كان ابو جميل مسروراً لأن الحسون ظل عندهم، وسيداويه هو بنفسه. سيأخذه غداً في غياب ابيه الى الصيدلي ليرى ما علته . ولماذا الصيدلي؟ الأستاذ لطفي، وهو خريج علوم بيولوجية، ويعلمهم في المدرسة العلوم ، يفهم في سقم هذا العصفور من دون شك. سيعرضه عليه غداً في المدرسة قبل بدء الدروس. وكان هذا الرأي هو الذي تداوله الولد جميل في ذهنه الصغير قبل ان يخلد الى النوم .

بيد ان هذا الذهن الصغير نما كثيراً في الليل، فتمدد واتسع بحيث رأى جميل في المنام الكوخ وقد صار منزلاً فسيحاً فيه حجرات عديدة، له حجرة خاصة، وكذلك لأخوته، فلكل منهم حجرة، ولأبيه وامه حجرتهما ، فيضحك لتمكنهم جميعاً من النوم في حجرة واحدة محشورين كالسردين في العلبة.
ولكن ابهى ما رآه ليس البيت الرائع والأثاث المترف. بل الحديقة الغناء القائمة، خلف المنزل وفيها الأشجار المثمرة وغير المثمرة التي تغرد العصافير على افنانها بحبور، والحسون بينها وكذلك الكناري اللذان كانا يتنقلان من غصن الى آخر، فيما هو ينظر اليها راضياً والفرح يتدفق من عينيه اللتين كانتا حزينتين غالباً. هما الآن متهللتان مستبشرتان تفيضان عذوبةً ولا اثر للدمع المتجمد فيهما. فيمد كفه الى الحسون والكناري ببعض القنبز، فيأتيا اليه فرحين مزقزقين، ليلتقطا الحب من كفه المبسوطة الى اعلى، الى الشمس والهواء. يا للبشر! ما اجمل الكون طالما فيه شمس وهواء واشجار وعصافير وديعة تحتكر البهاء في الألوان والأصوات والسلوك .
كان عالماً مسحوراً عاش فيه جميل طيلة الليل. واي عالم اجمل واروع من كون تتلألأ فيه الأجنحة الملونة تحت أشعة الشمس، متمايلة مع الهواء ، في تنقلها بين الأشجار والأفنان .
لكن الأكوان السحرية لا تدوم. فمع طلوع الشمس تتوارى ظواهر الليل في العدم مع تفتت الأحلام، فتتبعثر ذراتها الهيولية في الهواء .

يتأفف ابو جميل عندما يفتح القفص في الصباح ، ويجد الحسون نافقاً. ثمنه خمسة دولارات... لم يبقى شيء من مكسب الببغاء العاهرة. لا بد من الإستدانة من البقال .

وحينما اخرج الحسون النافق من القفص ودخل الكوخ، مكتئباً، ران الوجوم على الجميع، المرأة والأولاد . ولم يبك جميل ، لأن عينيه تجمدت الدموع فيهما من جديد .

0 التعليقات:

رسالة أحدث رسالة أقدم الصفحة الرئيسية