بشر وجرذان وخنازير


عندما تكون الأرض في بقعة ما ، ونفترض هذه البقعة حياَ فقيراَ يدعى الكرنتينا ، ملأى بالأكواخ المكونة من الصفيح المسمرة ألواحه بدعائم خشبيَة ، فمن يقطنها هم البشر من فوق، والجرذان من تحت.

ومع مضي الوقت يألف القاطنون فوق ، الحيوانات التي تقيم تحت ، فتنعدم ظروف العداء التاريخي في ما بين الفريقين، فيشكل نمطاً من الجيرة مبتكرة ، وإن كان غير مألوف في أماكن أخرى. فلا المرء يضرب الجرذ بعصا، أو يرميه بحجر، إذا خرج من مخبأه لكي يتنشق الهواء العليل فوق سطح الأرض. ولا الجرذ يعض أحداً من سكان الكوخ وهم نيام.

وكانت الجرذان من اللياقة والتهذيب. بحيث لا تُرى في النهار، وكأن ثمة إتفاقاً ضمنياً بين الطرفين على تقاسم اليوم. فيكون النهار للآدميين ، والليل لغيرهم. وقد يخلُ البعض بالإتفاق. إذ يطاردون جرذاً كان يتسكع ليلاً، غير دارٍ أن أحد ساهري الديوان قد يتأخر في العودة إلى كوخه بعد أن يمرَ بالمراحيض العمومية التي أقامتها البلدية من الباطون على الجانب الأيسر من الطريق الذاهب صعوداً من مستشفى الحيوانات الى المسلخ فالكرنتينا.

وخلافاً لما يحدث في أحياء الفقراء في عدد من البلدان الأخرى مثل إفريقيا وبعض مناطق السود في الولايات المتحدة كحي هارلم في نيويورك، لم يفكر الناس العائشون تحت مستوى الفقر، بأكل الجرذان مطلقاً، وإن كان هذا الأمر مثاراً للتفكَه الذي يحمل طابع الجدل العقيم في الديوان، إعتماداً على إلتصاق اللغو بهذا المجلس الذي يدعو الأعراب ديواناً، ويسود الكلام الكثير الذي هو غالباً بلا طائل، ويسمونه الهرج...

ولأن الهرج ببلاش كما يقول العربان، فقد اعتاد ساهرو الديوان (في الحي أكثر من ديوان) أن يتكلموا في الجرذان، حينما لا يتكلمون عن الغنم. وفي أكثر الاحيان تبدأ السولافة (الحديث) في الغنم وتنتهي بالجرذان.

ويظل السؤال المحيٍر هو : لماذا لا يأكل الفقراء هنا ما يأكلونه هناك ؟ خصوصاً متى علمنا أنه لم ينزل تحريم فيه كما نزل في الخنزير... مع أن الأعراب عموماً لا يأنفون من أكل الضبَ، وهو أبن عم الجرذ، واي فارق بيولوجي بين الحرذون أي العظاءة، الحرباء... وبين الجرذ؟ وهل الإستنكاف عن مجاراة البلدان الأخرى سببه القرف، أم مرجعه حالة الوئام بين البشر والجرذان في تعايش شبه نموذجي؟.

يقول عُقْلهْ الخضر الذي سمع في الديوان من يقول إن أقواماً تأكل كل حيوان يدبُ على الأرض، حتى الزواحف، فيما هو يأخذ نفساً من نرجيلته طويلاً : " ويش بيها يا ها الربعْ. أبو سمرَهْ الحجازي (هو الزنجي مبارك) قديش (يلفظ القاف جيماً مصرية) فُرَحْ يومةِ للي جَهْ الجراد؟ تشان (أي كان) يدفع لكل عجي (أي ولد) جرْشْ حق كل جرادهْ. ويقول إنها أطيب من اللحم المشوي."
ولما أحس تأييداً لما يقوله لدى الساهرين واستحساناً، استطرد حالما سحب نَفَساً عميقاً من النرجيلة:" وليشْ نستغربْ أتْشل الجراد، وهادا الحج فْرْنّوْ قِطَعْ دابرْ التشْلابْ (الكلاب) في الحيْ. ومِن يومة الي رجع من بلاد الناي ناي (يقصد شبه جزيرة الهند الصينية) مع الجيش الفرنساوي، صار اللحم عندو لحم التشلاب، وبس...".

وعبثاً حاول موسى جولان الدخول في مسائل المحللات والمحرمات، إذ إن عُقلة أفحمه حين أكد أن الحاج فْرْنّوْ والزنجي مبارك الملقب بأبي سمرة، آكلي الكلاب والجراد، وهما من أشد الاعراب ورعاً، أفهم الجميع في الشريعة ومقتضياتها.

ومن يومها، شاع لقب "أبي الجرادين" على عُقْلة الخضر. بل إن اللقب طغى عليه، فلم يعد يُعَرفُ إلا بهذه الكنية. ودحضاً للإشكال، بات اسمه كاملاً : عُقْلة الخضر أبو الجرادين... وهو ما دُوٍنَ رسمياً في سجلات المسلخ بصفته عاملاً فيه.

وهذه التسمية التي ألحقها الخبثاء بهذا الرجل الأربعيني ذي القسمات التي توحي بالطيبة والغلو في السوالف (الأحاديث) والقامة المربوعة، لم تلتصق به لو لم يكن يكثر من الكلام عن الجرذان، وكأن من أطلقها أراد الإيحاء بأن عُقْلة يسعى للفوز بلقب الرجل الثالث في تجمع الأعراب هذا، الذي لا يتورًع عن التهام حيوان مقرف، بعد الحاح فْرْنّو وأبي سمرة... غير أنه حاز على صفة أول شخص من بين البدو يعاني من عوارض داء النقرس... لكثرة التهامه اللحم.
لكنّ التهمة الجرذانية لم تعمر طويلاً كما عمًرت كنيته الجرذانية أيضا. فالغلام تركي إبن صاحب الديوان، وهو تلميذ يتلقى العلم في مدرسة في الأشرفية، ونجح في الشهادة الإبتدائية، ويستعد لدخول الصف الأول المتوسط، أعلن حصيلة قراءآته العلمية التي تشير بشكل قاطع، الى أن الجرذ ناقل لوباء الطاعون وقانا الله شرًه...

وهكذا حُسمت هذه المسالة لمصلحة... مصلحة من؟ لا أحد في الحقيقة قال انه يحبذ أكل الجرذان. ولماذا لحم هذا الحيوان المقرف الوسخ، فيما جميع العاملين في المسلخ يحصلون على اللحم بلا مقابل؟ صحيح أن هذا اللحم ليس لحماً، بل جلاميق ومذابح وبعض ما يعترض اتجاه اليد الخفيفة... فهو ذو طعم رائع متى شوي على النار.

من هنا استمرار الوئام قائماً بين البشر وهذه المخلوقات الوديعة القميئة. والإنتهاكات لا تحصل إلأ في ساعة متأخرة من الليل وعند المراحيض العمومية. غير أن الجرذان كانت إجمالاً عاقلة، فلم تتذرع بهذه التصرفات الفردية الطائشة لنقض الإتفاق الضمني الذي ظل محتَرماً معظم الوقت. فلم يحدث أن شكا أي شخص من الإصابة بالتسمم في الطعام البايت برغم أن جرذاً ما أو فأراً على الأقل، شوهد قرب طنجرة الطعام وأنفه في الأرض لصق الوعاء. بل أن جرذاً مقداماً جرؤ يوماً ونام قيلولته بكل أطمئنان، على الكارة التي تغطي معجن الخبز.


واحتارعُقْلة أبو الجرادين في وضعه الصحي، وانعكاسه على الوضع الغذائي. فهو لا يقرب اللحم. اللحم المشوي الذي لم يخلق الله ألذ منه على الإطلاق. وكانت امتع لحظات حياته حين يعود من المسلخ حيث يعمل أجيراً عند تاجر ماشية حلبي مقيم في بيروت، وفي مئزره ذي الجيب الوسيع كمية من المذابح التي هي أصلاً العرق الذي يختزن في داخله بقايا الدم المتخثر في الرقبة. لكن العاملين في المسلخ اعتادوا انتزاع قطعة من اللحم المحيط بالعرق بحجم الأوقية، خصوصاً إذا كان العامل أجيراً لدى تاجر من غير الأعراب، وقد حللوا ذلك ودعوه :"رزقة"... بكل اعتزاز!.
فمن هذه الكمية يشوي هو وتطبخ امرأته فيشبع الجميع، الكبار والصغار، برغم صعوبة إشباع هؤلاء الأولاد الفجعانين.

لكنه بعد تفاقم أوجاعه التي مصدرها أصابع القدمين وعظمتي الكاحل أحياناً، لم يعد يستطيع اكل اللحم ... ولمّا اهتدى على الأمعاء التي تُنَظَفْ حالما تُستَخرج من الذبائح، ويسمونها "مندويشات" وأكلها لذيذ أكان مشوياً أم مقلياً، قال له الصيدلي الأرمني هاغوب الذي ينادونه بالدكتور على أساس أن كله صابون عندهم، إن هذه المندويشات مضرّة وأذاها أشد هولاً من اللحم، ولو كان لونها أبيض والدهن فيها أكثر من اللحم... بل، ليس فيها لحم أصلاً... وكان العارفون من أهل الحي قد اكدوا له أن اللحم الأحمر ضارٌ به وعليه باللحم الابيض، وظن الأمعاء لحماً أبيض كالسمك والدجاج.

لكن السمك غالٍ وليس متوافراً كل يوم، وصيده حسب الطقس، فأبناء الحي البارعون في السباحة والصيد لا يصطادون السمك في الأوقات التي يكون فيها البحر مائجاً. حتى لو توافر، فهو لا يُشبع، وبوسعه أن يأكل قنطاراً منه ولا يكتفي. أمّا الدجاح فمسألة أُخرى. إنه يُشبع جوعه بالطبع، لكنه غالٍ جداٌ (كلمة "غالٍ" يعني أنه لا يحصل عليه مجاناً كلحم المّذابح الشهيّة).
إذاً، لن يستطيع أكل الدجاج إلا في بعض المناسبات، كأن تُضلَّ إحدى دجاجات الأرمنية إبراكسي (يلفظها الأعراب مجزأة لا متكاملة) الطريق إلى الخم، فتتلقفها أيدٍ كثيرة في بيته – أو كوخه- ما عداه هو، لأن هذه سرقة، والسرقة حرام. لكنه يأكلها بعد أن يحللها في اجتهاده الذي يعتبرها نوعاً من غنائم الغزو... لا سيما وأن الضحية من اهل الذمة!.


ويستمرُّ النقرس في قدمي عُقْلة أبي الجراذين ليجعل غذاءه خالياً من اللحم. ولطالما خالف نصيحة الصيدلي هاغوب، حين يشاهد المرأة والأولاد يشوون المذابح أو يقلونها، ويشوون المندويشات أو يقلونها، فبمدُّ يده إلى بعض لقمات لا تسدُّ رمقاً، لكنها تفتح الشهية على ما هو أكثر، فتكون النتيجة أن يتلوى من الألم ليلاً، ليقسم مجدداً بألا يذوق اللحم الأحمر مرّةً أُخرى. وهو غير مصدِّق نفسه بإمكانية الوفاء بقسمه، حالما يشم رائحة اللحم المشوي أو المقلي، حتى ولو ظلَّ أياماً بطولها يئن من الألم.

وشاع في الحي مرض عُقْلة الغريب على أهل الأحياء الفقيرة، وهو الموصوف بداء الأكابر... وأخذ كل واحد من ساهري الديوان يصف له دواءً عربياً، لقد أسقوه من كل أشربة النبات والأشجار، حتى ارتوى. لكنه بدون جدوى. ولم يبقى إلا خميرة وصفوها له من روث الماشية مضافاً إليها بعرة بعيرٍ بكرٍ لناقة حلوب...

وقد شرب هذا السائل الغريب الحاصل من منقوع الروث المتعدّد النوع، بعدما قامت إمراته بزيارة أهلها في سهلٍ عميق للحصول على بعرة البعير ... الغالية.

واليوم لا يعرف عُقْلة بالضبط إذا كان تحسنه عائداً إلى احتسائه كل هذه المنقوعات، أم لأنه لازم أكل الكثير من المجدّرة والبرغل مع القليل من الأرّز واللبن.

غير أن عوامل نفسية ساهمت في تخفيض نسبة الحامض البولي في دم عُقْلة، كما يقول الصيدلي هاغوب. وقد يكون محقّاً في ذلك، لأن عُقْلة وجميع العقلاء في الحي، عاشوا شهراً من السعادة الطاغية، عندما أقدمت سلطات الإنتداب الفرنسي على نصب محرقة قرب مسلخ الخنازير وشرعت في إحراق عدد كبير من الخنازير التي تتخذ مكب النفابات الضخم في الحي، قرب شاطئ البحر، مرعى لها. ولا بد أنهم رأوا بأعينهم الجنود الفرنسيين وهم ينهالون بالضرب على خليل البوري صاحب أكبر عدد من الخنازير المصادرة برسم الحرق، حين أبدى تذمره من هذا التدبير التعسّفي بحق خنازيره البائسة. يا خراب بيتك يا خليل البوري... ومن ناقل القول إنهم شمتوا بمصابه!.
فلقد أجمع الساهرون في الديوان، على وهج جمرات نراجيلهم، على ان هذا الموقف الودّي من الفرنسيين في إحراق الخنازير النجسة رائع، ويجب أن يُقابَل بالشكر منهم. فقًر الرأي بأن يقوم وفدٌ من الأهالي بالذهاب إلى ثكنة الجيش الفرنسي في مدخل الحي من ناحية جامع الخضر، للإعراب للضابط عن وحدة الموقف من الخنازير عدوّة المسلمين والنصارى واليهود. وإذا كان النصارى لم يفطنوا إلى قذارة الخنازير ونجاستها، أو في الأحرى تغاضوا عن سيّدنا عيسى ابن مريم منها عندما انتزع الأرواح الشريرة من شخص مصاب بالصرع ورماها على الخنازير...

غير أن الفتى تركي، قرّة عين أبيه صاحب الديوان أفسد هذا المسعى حين قال لهم إنه قرا في الجريدة أن عملية حرق الخنازير ما هي إلاّ بسبب وفاة ضابط فرنسي كبير بداء التريشينوز، لا سيما والخنازير في بيروت لا تقتات إلاّ على القاذورات.

وعلى كل حال، ظلَّ أهل الحي مدَّة شهر من الزمان فرحين، تتهلل أساريرهم فيبتسموا، وهم يسمعون زعيق الخنازير يملأ الاجواء، من المسلخ إلى الكرنتينا، ونزولاً إلى مستشفى الحيوانات. وما كان بعضهم يخفي شماتته، فيوجه سباباً للخنزير الذي يُلقى طعماً للنار: " خْرْجَكْ يا معَرّص".
بيد أن هذه الفرحة بمحنة الخنازير لم تدم. فقد نغَّصها إقدام البلدية على إنشاء محرقة للجرذان قرب الشاطئ. فكانت سيارات البلدية المحملة بالأفخاخ والمصائد، تُلقي حمولتها من الجرذان والفئران في هذه المحرقة وهو ما ترافق مع نجاح التلميذ تركي الأبيض في مسعاه مع إحدى الجمعيات التي تعنى بالحفاظ على البيئة، والذي أدَّى إلى تزويد كل كوخ في الحي بمصيدة جرذان، لتبدأ نكبة هذه المخلوقات الحقيقية...

طبعأً، أبى البعض، ممن اعتادوا رؤية الجرذان وهي سمينة وكأنها معلَّفة، لا سيما وثمة مكب ضخم للنفايات، وعلى مقربة من المسلخ البلدي (المكب أيضاً بلدي لأن سيارات التنظيفات التابعة للبلدية هي التي تلقي نفاياتها هناك عند الشاطئ) وتحت مبنى المسلخ، كما في المكبّ غذاء كثير لها من دماء متخثرة وما في الأمعاء والكروش من أوساخ، إذا أضيفت إلى خيرات المكبّ من قذارات، فإن الحشرات وهذه الكائنات الباعثة على القرف، في بحبوحة غذائية تُرقى إلى مستوى الترف.


يشُمُّ عُقلْة أبو الجرادين مع ساهري الديوان رائحة الدخان الكريهة المنبعثة من محرقة الجرذان، فيلفّ خرطوم نرجيلته على قضيبها المعدني المجوّف، فوق قاعدتها البلَّورية، ويقترب من النافذة المطلّة على الشاطئ (بعض الأكواخ بطبقتين وهي خاصة بالوجهاء) ثم ينظر إلى جهة البحر حيث المحرقة، ويصفِّر صفيراً خافتاً يعرب عن استيائه (أوليس هو بأبي الجراذين، أي حاميها) وبعد لحظات يعود إلى مجلسه وسط اهتمام عام من الحاضرين بحركته المدهشة.

يأخذ نَفَساً من نرجيلته ويتطلّع في الساهرين واحداً واحداً، بتأنٍ ويقول : "نْمسّيكْم بالخير..." وحين يسمع الرد الجماعي على تحيته، يمسد شاربه الكثَّ باليد التي تركت الملقط بعدما أحكم به وضع الجمرتين فوق نفس التنباك المحروق، وقال : "شنْو رأيكمْ يا ها الربع، نروح باتْشرْ (يعني "باكراً") لعند رئيس البلديةْ... "علشانْ المحركَة؟" (القاف دائماً جيم مصرية).
وتساءل جمعهْ خليف : " نشكروْ... واللاّ إيشْ؟"

" لأ، نْفَهّمُو إنّا، وكل العربان، نعيمْ وزريجات وللهيب وعراقية، زعلانين منّو ..."
إستفسر موسى جولان بإنفعال : " ونحنا زعلانين مِنْ إيشْ؟"
إستشاط ابو الجرادين غضباً وقال بحدَّة : " ومفزورينْ كمانْ..."
لم يفصح عُقْلة عن السبب. فهو لا يستطيع إعلان تضامنه مع الجرذان في نكبتها، ولا إبداء التعاطف معها. ألا يلقبونه بأبي الجراذين؟.
وسأله ديب الأبيض : " قول ْ... شنوْ مزعلكْ؟"
"من هالدخنةْ إللي تعمي، والريحهْ اللي تفطسْ..."
وما لم يقله عُقْلة أبو الجراذين هو أن الناس عاشت دائماً في جيرة الجرذان، ولم تر منها ما يزعج. ونِعمَ الجيرة... لكنه يعجز في كبت موقفه الحقيقي فينجرف بالقول محتدّاً : " وليش نكْتلّها و نحْركهْا متل الخنازير النجسة... وببلادْ تانيهْ..."

سكت فجأةً، وكاد ان يقول : " هناك يعْلّفْونهْا و يأكْلْونْها مشويّةْ ومقليّهْ ومطبوخهْ مع الرز واللوبيا والفاصوليا..." لكنه أمسك لسانه في اللحظة الأخيرة. وحسناً فعل وإلا لإتَّهمه العربان بدنائة النفس وأكل ما هو أشدّ قرفاً من البّزاق والقطط وحتى الخنازير...

"باطلْ!" صرخ موسى جولان ممتعضاً : " بَدَالْ ما نشكر البلديهْ على بيوت المَيْ اللي ساووها ليْنا، وسمحو لنْا نعمّر التخاشيبْ، نْروحْ نْقْلْلهمْ إنّا زعلانين منهم؟ شْنْو ها الحشيْ (الحكي) يا ها الربعْ؟ هادا ما يصيرْ والسِما زرقهْ...".

لقد أُسقِط في يد عُقْلة أبي الجرادين، وكسب موسى جولان هذه الجولة. ولم يكن الحاج فْرْنّو حاضراً الديوان، ليشهد بأن طعم لحم الكلاب طيّب، وهو ليس مضراً بالصحة، وليس محرّماً... وهذا هو الأهمّ. وكذلك غاب الأسود أبو سمرة الذي يتباهى أمام الحضر والأعراب، حتى الأرمن، بأن أكلته المفضّلة هي الجراد (وسط استنكار الحضر، واستغراب الأعراب، وتصليب الأرمن على صدورهم) ويحبّها مشوية على نار خفيفة !.

لكن عُقْلة لم يلق سلاحه مستسلماً. يا حِيْفْ... هو يسكت و موسى جولان يسولف! فتمتم حينما أطفأ الجمرة من فوق رأس نرجيلته، منصرفاً من الديوان، عائدا إلى كوخه عبر المراحيض العمومية، وكأنه يحدِّثُ نفسَهُ : " إيشْ بيها الجرادينْ؟ وإيشْ الفرق بينها وبين الضبّ والتْنْينْ ما نِزَلْ بيهم تحريمْ... متل الخنازير النجسة... تْفِهْ..." ومن حسن حظه ان البصقة كانت خارج عتبة باب الديوان. وإلّا لإستاء منه صاحب المنزول، حيث الدفء والنراجيل والقهوة المُرَّة والهْرْج، إلى ما بهد منتصف الليل!.

0 التعليقات:

رسالة أحدث رسالة أقدم الصفحة الرئيسية