كان المستشرق الروسي العظيم , بل المستعرب الفذ ,إغناطيوس كراتشوفسكي أهم الأجانب الذين أحبوا العرب و شغفوا بتراثهم الفكري . و حين يقرأ الإنسان العربي سيرة هذا المفكر الموسوعي و يقف على إنجازاته لا يستطيع إلا الإنحناء تمجيدا له و تكريما . فهو الروسي الأورثوذكسي الذي قضى عمره في البحث عن كنوز الحضارة العربية ,و نبش ما هو مدفون في غياهب التاريخ .فمآت الأبحاث و الدراسات التي أتحف بها المكتبة العالمية ,تطرأت حول إنجازات العرب الفكرية ,لدرجة أن المعرفة الإنسانية بدور العرب في التاريخ الحضاري فد تم كشفه ووضعه على مشرحة البحث و التدقيق ,بحيث أن الغرب لم يعد جاهلا لهذه الحضارة التي نفض الغبار عن مكنوناتها , و هي التي كانت دفينة الوف المخطوطات المنسية في أصقاع الأرض .

كراتشوفسكي الذي إستوطن أوزبكستان مع عائلته الروسية ,و كان بعد صغيرا, تعلم لغة القوم ووقف من خلالها على قسط كبير من تراث العرب و المسلمين مضيفا هذه اللغات الأخرى التي يتقنها ,مثل العربية و السريانية و الفارسية و التركية و غيرها ,و عندما قدم اإلى بلاد العرب في القرن الثامن عشر ,. لم يكن دخيلا على هذه الأمة بل كان عالما متخصصا في ثقافتها و تاريخها و عادات شعبها و قيمهم , و في جعبته كتابه المهم الذي ترجمه إلى الروسية "معاني القرآن القريم "و في مدينة حلب حيث إستقر بعض الوقت ,عاش كواحد من أهلها مصطفيا نخبة من أهل البلد رأوا فيه واحدا منهم , يبثونه همومهم و هواجسهم , و اثقين به كإنسان يفيض حبا و معرفة الأمرالذي قربه من هذه البلاد و أهلها , و عمّق لهذه الحضارة التي كاد الإحتلال العثماني أن يطمس معالمها . و هنا جاء دوره في إستجلاء حقيقة هذه الحضارة الرائدة, مبينا للملأ كون الخاضعين للإحتلال أرقى و أعظم شأنا من المحتلين .

لم يسبق لمستشرق أوروبي ان تجانس مع العرب و تعايش معهم , كما فعل كراتشوفسكي , حتى و لا المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون صاحب كتاب"الحضارة العربية "الذي يقول في مقدمته :" لم يعرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب "...

لقد شاطر المستشرق الروسي أبناء الأمة العربية معاناتهم و جلدهم على المكارة , و ما كانت مؤلفاته في الحضارة العربية سوى دفع العرب ليعيدوا كتابة التاريخ و ضع الحاضرو المستقبل , كما كانوا دائما .و في صورة فوتوغرافية أخذت له في جلسة عربية , ظهر فيها مرتديا القنباز الحلبي , جالسا على البساط الشرقي و ضاحكا مع نفر من جلسائه . و كأن هذه الصورة تعلن مدى تعاطفه مع العرب في السراء و الضراء .

غير أن بعض العرب في هذا العصر المتخلف , أساءوا إلى ذكرى هذا الإنسان العظيم بجهالتهم البربرية و ظلاميتهم المتوحشة . إذ أفدموا بدون وازع من ضمير أو حس إجتماعي , على تفجير كنائس في العراق و مصر ,و قتل و ترض مسيحين من ديارهم ,فيما كان هذا المستشرق الروسي المسيحي من أشد المدافعين عن العرب و المسلمين . و اليوم بعد هذه الردة التكفيرية التي تطوع بها بعض الضالين من أبناء هذه الامة ماذا نقول لروح من أفنى عمره في تمجيد العرب و المسلمين ؟

نقول , و بملء ألأسى : واخجلتاه من كراتشوفسكي !


كانت مشكلة ابي جميل هي ابنه اليافع جميل . فهذا الولد البالغ من العمر عشر سنوات ، بخلاف اخوته الثلاثة الصغار ، يحب دائماً مرافقة ابيه بائع العصافير الى سوق الأحد على طريق النهر ، لينكّد عليه عمله بإبداء عطفه على هذه المخلوقات الجميلة الصغيرة ، لدرجة أنه يحزن حين يبيع ابوه عصفوراً يكسب منه ما يقوم بأوده وأود اطفاله . ولو لم يكن ابو جميل بحاجة الى عون ابنه لما تركه يأتي معه الى السوق . فهو يعلم جيداً كم يحب هذا الولد الطيور ويحنو عليها ، بحيث يقرع اذني ابيه البائس بضرورة الإقلاع عن هذه التجارة والبحث عن عمل افضل من الإتجار بهذه الأرواح البريئة . فهناك قفصان يحملهما الوالد وقفص ثالث يحمله الولد عاشق العصافير .
وفي الحقيقة حاول هذا الرجل الذي لا يجيد أية صنعة ، العمل في مجالات اخرى ، لكنه لم يوفق. وآخر عمل ، وكان ذلك منذ سنتين ، حمال في المرفأ ، فآلمه ظهره كثيراً . غير أنه بيع الطيور ليس متعباً ، وإنه كانت مكاسبه ضئيلة . لأن المشترين قلة، بسبب سوء الأوضاع الحياتية. والناس ما تكاد تكسب نقوداً تكفي لإنفاقها على الخبز والطعام وإكساء الأبناء وتعليمهم في المدارس التي تأكل الأخضر واليابس .

المدارس تخرب البيت . فهو باع مصاغ زوجته واستدان من جميع اقاربه واقاربها لكي يستطيع دفع الأقساط المدرسية برغم ضآلة المبلغ الذي يدفعه في المدرسة المجانية فالكتب تتغير طبعاتها كل سنة ، وبالتالي لا يستفيد ابناؤه الذين هم اصغر سناً من كتب اخوتهم الأكبر سناً . وعلى كل حال فهو يعتبر نفسه محظوظاً قياساً الى كثيرين غيره . فبيته الوضيع في حي بئر حسن المخصص للفقراء، يكفيه عناء دفع الإيجار. صحيح انه مجرد كوخ حقير، لكنه يستره وعياله.

لكن هذا الولد الذي هو الأثير لديه ، والذي لا يحب ان يقسو عليه ، يزعجه بإستمرار عندما يتدخل في عمله . هذا الحسون مريض يا أبي. لم يأكل طعامه المكون من القنبز وقطع من أوراق الخس . حتى انه لم يشرب الماء المخصص له .

وينهره الولد: الله لا يرده. قد نبيعه اليوم ونتخلص منه .

لكنه مريض يا أبي. انا متأكد من انه يتألم ...

ما رأيك يا ولد لو نأخذه الى الطبيب وندفع معاينة له بالدولار ؟ هذا ما ينقصنا ...

يصمت الولد وقد ادرك ان اباه يسخر منه . مسكين ابي . لو كان يستطيع دفع معاينة لذهب هو الى الطبيب بدلاً من هذه اللزقات التي يضعها على ظهره معظم الأيام . ولداوى أمي التي تشكو من ألم دائم في معدتها تعالجه بشرب


من القتيل؟ انه الإيطالي الإنسان الآدمي فيتوريو اريغوني الذي آثر القدوم إلينا في غزة المحاصرة مشاطرا أهلها بؤس الحصار والام القهر الذي تمارسه إسرائيل على الأطفال والمرضى والجياع، متخليا عن ربوع بلاده الجميلة التي قال قيها الشاعر الإنكليزي الأشهر لورد بايرون: "لو فتحتم قلبي ستجدون منقوشا عليه كلمة ايطاليا..."

وعندما يترك هذا الإيطالي الرائع بلاده، ببحيرتيها – أو قل جنتيها – كومو ولوغانو في الشمال، مع جسر التنهدات ومقاهي الأرصفة في ساحة التنهدات ومقاهي الأرصفة في ساحة سان ماركو في البندقية وينحدر جنوبا الى فلورنسة مهد الحضارة الأوروبية الحديثة، ومنبع الفن الخالد، من بوتشللي وميكيل أنخلو برائعته المرسومة المونليزا، وصولا الى نابولي في الجنوب حيث شاطئ "لامرجيلينا" قرب اليخوت المترفة بالحياة والجمال، وانتهاءً بجزيرتي كالبري واسكايا مع كل معالم الفَتنة والسحر فيهما... حين يتخلى هذا الإيطالي السمح عن كل هذه المباهج ويؤم بلادنا الحزينة، متخذا من غزة موطئا لدفاعه عن الحق العربي في وجه الظلم الصهيوني، رافعا بيده العلم الفلسطيني، مؤكدا استحالة القضاء على شعب يصر على البقاء ولو أمام جحافل الغزاة بدباباتهم وطائراتهم وأساطيلهم، يكون هذا الإيطالي الغريب، أشرف منا جميعاً، نحن العرب الفلسطينيين – وغير الفلسطينيين لأن القضية قضيتنا، والأرض أرضنا.

ومن هم القتلة؟ هم نحن، الذين قابلنا المليح بالإساءة، متخليين عن جوهر قيمنا العربية الأصيلة، في وفادة الضيف، وقد رسول الله محمد بن عبد الله (ص): "انم جئت لإتمام مكارم الأخلاق".

وهل من مكارم الأخلاق أن نغدر بمن آزرنا وقاسمنا المعاناة والبؤس، وحمل همنا وتجرع المرارة في سبيل حقنا السليب؟

نعم، نحن غدرنا بك أيها الإيطالي الشريف. وقدمناك ضحية لجلاديك الذين يكثرون من ذكر الله في كلامهم، وإن كانوا بعيدين، كل البعد عن كلام الله، في أفعالهم.

هل يفقه القتلة الأغبياء معنى قول الرسول(ص): "أفضل للمؤمن ان يموت مقتولا، من أن يعيش قاتلا".


وقائع السرقات الادبية عند العرب كثيرة جداً ويصعب حصرها ، منذ مآل قصيدة " اليتيمة " لشاعر مغمور من بلدة منبج في شمالي سورية في القرن الخامس الهجري ، حيث سرقها منه شاعر مجهول أخر بعدما قتله وهما في الطريق الى نجد ، ليشتركا في مسابقة بين شعراء للحصول على قلب أميرة في تلك المنطقة . وكانت هذه القصيدة التي عرفت باليتيمة هي القصيدة الفائزة بتلك المسابقة . غير أن الأميرة المذكورة شككت في نسبتها للشاعر السارق ، واجبرته على الإعتراف بحقيقة فعلته ، فعوقب .

هذا في الماضي السحيق ولا مجال الآن في هذه العجالة ذكر تلك الوقائع من هذا النوع . لكن في العصر الحديث يعتبر ما أقدم عليه الكاتب العربي المصري يوسف السباعي أفظع سرقة في تاريخ الادب . إذ جرؤ على الإستيلاء على رواية والده غير المطبوعة بعد وهي رواية بعنوان " السقا مات " التي تعتبر من أهم الروايات في الأدب العربي الحديث ، وقد أطلع عليها مؤلفها محمد السباعي احد اصدقائه قبل وفاته. ولهذا ، حينما نشر يوسف السباعي هذه الرواية بإسمه ، لا بإسم ابيه ، انبرى ذلك الصديق وانتقده بكلام جارح

بيدا ان يوسف السباعي وقد لمع نجمه اخيراً ، وعين وزيراً للثقافة في سبعينيات القرن الماضي ، إقتص من صديق ابيه الذي كان قد فضحه على الملأ فأبعده كموظف حكومي الى اسوان حيث مات الأديب مقهوراً

ومن يقارن بين رواية " السقا مات " وجميع أعمال يوسف السباعي يلحظ الشقة الشاسعة بين رواية محمد السباعي المسروقة ، واعمال ابنه ، من حيث العمق والمعرفة في شتى دروب الحياة اللذين عرف بهما محمد السباعي ، إزاء سطحية أعمال الإبن وضحالة ثقافته ، كما يتبين لقارئ هذه الأعمال مثل "إني راحلة " وهي الرواية التي يعتز بها السباعي الإبن " ومبكى العشاق " التي تضمنت عديداً من القصص القصيرة ، مما يجعل الأمر وصمة في تاريخ هذا الكاتب الذي سطا اهم عمل لوالده ، بعد وفاته

وقبل ان يلقى يوسف السباعي حتفه برصاص جماعة من الفلسطينيين في قبرص ، ثأراً من الرئيس المصري آنذا أنور السادات بعدما تفاقم الخلاف السياسي بين الدولة المصرية ومنظمة التحرير الفلسطينية .

وجدير بالذكر أن يوسف السباعي امتعض من عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين حينما قال له ذات يوم : ( أبوك يكتب أفضل منك ) ولا بد أن عميد الأدب العربي قد وقف على واقعة استيلاء يوسف السباعي على رواية ابيه الخالدة " السقا مات " .

اليدان


كانت ما أجمل اليدين إنّهما في طرفيّ الساعدين كالزهرتين في أعلى الغصن. وهل يكتمل رونق الجسم من غير اليدين؟

كان دائماً ينظر إلى يديه بإعجاب. يرسم بهما ظلالاً معبّرة على الحائط مستفيداً من انعكاس الضوء. وهو لا ينسى إنّه بهما أمسك أوّل لعبة حصل عليها من أبيه. وكذلك أمسك بهما أوّل كتاب تعلّم فيه. وفي ليالي الشتاء الباردة بهما كان يمسك بطرف اللحاف ليدثّر رأسه.

وظلّت يداه لغزه المحيّر الجميل طيلة سني طفولته، لا يتخيّل جسمه من دونهما. وعندما صار فتياً، بهما فضّ أول غلاف رسالة من فتاة أوّل حب في حياته. وكذلك بهما مسح دموعه الأولى عند وفاة أمه.
وفي الجندية كانت يداه المرنتان أداتيه في التفوّق على رفاقه حيث تعلّم في المعهد العسكري معالجة صواعق المتفجرات وإبطال مفعول القنابل. ولهذا رُقي الى رتبة عريف ثم رقيب بسبب مهارة يديه اللتين بات بفضلهما من أهم خبراء المتفجرات في البلد، وبه يستعان في إفساد كثير من عمليات التخريب والقتل بهدف إشعال فتيل الفتن والاضطراب.

والآن، بعدما بُترت يداه خلال معالجته إحدى المتفجرات، منذ ثلاثة شهور مرّت عليه عصيبة ومثقلة بالحزن والشؤم، لم يعد اللغز المحيّر قائماً. صار جسمه كالغصن العاري من أي زهرة. وأشدّ ما يؤلمه عدم مسح دموعه التي تهطل من عينيه. ويتزايد الدمع في جريانه حين يرتمي ابنه الأصغر في حضنه على السرير المسجّن عليه فيفتقد يديه ليداعب بهما شعر هذا الطفل الناعم.
وفشلت تطمينات امرأته: لن ينقصنا شيء، فمرتبك التقاعدي يكفينا. وغداً يكبر أبناؤك ويعملون وسنكون بخير. الولد الأكبر في الخامسة عشرة. أنهى تعليمه المتوسط وهذا يكفي من التعليم. سوف يتعهد خاله الحّداد ويجعل منه معلماً في الصنعة في غضون سنتين. فلا تجزع على مستقبل أولادك يا حبيبي لكن اليدين غاليتان يا إمرأة. فيهما أخذتك بين ذراعيّ دائما. وبهما كنت أقشر البرتقال والفستق لأطفالي. هل تنسين الوردة الأولى التي نبتت في حديقتنا الصغيرة وقد قطفتها بيديّ وقدمتها لك عربون حب؟ لن أستطيع فعل ذلك من جديد ولا أعتقد بأن أي وردة ستتفتح في حديقتنا بعد الآن. فاليدان اللتان كانتا ترعيان هذه الحديقة اختفتا إلى الأبد. ومعهما اختفت بهجة العيش الهنيء. صحيح إننا كنا فقراء وينقصنا الكثير. غير إن الدنيا كانت طافحة بالبشر طالما كانت هناك يدان تداعبان أيدي الأحبة وتلتقطان الخبز والطعام من على المائدة.
كان الرقيب المبتور اليدين يحدّث نفسه وفي خلده انه يحدّث زوجته الحسيرة الرأس والدامعة العينين. وفي هذه اللحظة تحسّر على يديه. إذ أحس برغبة جارفة في كفكفة دموع هذه المرأة الكسيرة الفؤاد. وكان في قريرة نفسه يشعر انها تفضّل لو فقدت إحدى عينيها، بل يديها وبقيت له يدان.

حين جاءوا له بيدين اصطناعيتين من المعدن ليستعيد بهما على قضاء حاجته. نفر منهما. ما هذا؟ معدن مغروس في طرفي ساعديه! كان يمقت كل شيء هجين. أبى ذات مرة أن يلبّس احدى أسنانه بوعاء ذهبي. لا يمكنه اختلاط المعدن بالجسم البشري. وهو كائن إنساني وليس شيئا آليا، مثل الذي يراه في التلفاز أو يشاهده في المجلات. ليس بوسعه قبول جزء زائف في جسمه. وعلى كل حال لن تستطيع هاتان القبضتان المعدنيتان ذوتا الأصابع الغريبة المصنوعة على شكل ملاقط، أن تعوّضا عليه فقدان اليدين الغاليتين اللتين كان يربت بهما على شعر إبنه الصغير، ويرسم بهما له ظلالا معيّنة على الحائط. فما أقبح الإنسان بلا يدين يقطف بهما وردة يقدمها لحبيبته في ساعة الفرح، ويمسح دموعها في لحظات الأسى.


يتساءل كثيرون: كيف بدأت الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت الوطن العربي دفعة واحدة، ومتى؟

يجيب على هذا التساؤل الكاتب والصحافي البريطاني روبرت فيسك في جريدة "الإنديبيندنت" اللندنية صباح الخامس عشر من شهر نيسان عام 2011 بالآتي:

يظن معظم الناس أن واقعة الشاب العاطل عن العمل والذي منعته البلدية في إحدى بلدات تونس، من بيع الخضار على عربة، برغم كونه خريج إحدى الجامعات، المدعو "البو عزيزي". وإقدامه على الانتحار حرقا، هي السبب الأول لاندلاع الثورة التونسية، والتي أعقبها الثورة المصرية ثم ما حدث ويحدث في اليمن والبحرين وليبيا وأخيرا في سوريا. يؤكد هذا الكاتب الضليع في متابعة شئون الشرق الأوسط، ومؤلف كتاب "ويلات وطن" أن البداية لم تكن من تونس، بل من لبنان، إثر اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق الشهيد رفيق الحريري، حيث سارت في لبنان، من كافة المناطق وصولا إلى ساحة الشهداء في بيروت أكثر من مليون لبناني احتجاجا على هذه الجريمة، الأمر الذي أدى إلى خروج القوات السورية من الأراضي اللبنانية.

ويقول فيسك: كانت هذه التظاهرة المليونية العارمة، المليونية التي إستولدت تظاهرات مليونية مشابهة عارمة أخرى، وان لم تكن مليونية، في البحرين وسورية.

ما كتبه فيسك يؤكد حقيقتين. أولهما أن الوطن العربي وحدة متماسكة، ما يحدث في أية عاصمة منه، يترك أثرا في العواصم الأخرى وثانيهما أن العالم لم يعد بلدانا منعزلة عن بعضها. بل أصبح ما يجري في بلد ما يترك صداه في البلدان الأخرى، بفضل وسائل الاتصال الحديثة التي يؤمنها الإنترنت؛ الفيس بوك وتويتر وغيرهما من منجزات العلم الحديث، إضافة إلى أن المتداولين في هذه الشؤون هم من طلبة الجامعات ذوي العلم الواسع في مجريات الكون، والمعرفة العميقة والحس المجتمعي الذي يدرك أن العالم أضحى الآن عبارة عن قرية صغيرة.

في المأوى

كانت الليلة الأولى لها في المأوى الذي أتى بها إليه و لداها من أشدّ ليالي عمرها المديد قهراَ .لم تستطع النوم .كما لم تفارق الدموع عينيها الكليلتين .ليغفرالله لهما هذا التصرف .ما ضرّهما لو بقيت في البيت الحبيب الذي عاشا فيه أمتع سني حياتها مع زوجها المرحوم ,ومعهما ابنيها الغاليين؟

البيت فسيح ,يتسع لهم جميعا ,هما و زوجتاهما و أبناؤهما ,أحفادها,الذين لا تقل ّ محبتهم في قلبها الواهن عن محبتهما ,هما فلذتا كبدها .و ماذا كانت تشغل هي من البيت غير ركن صغير في حجرة المؤونة ؟

تتذكّر المرأة الطاعنة في السن ,أنها كافحت طويلا مع زوجها لشراء هذا البيت و تأثيثه ليغدو دنياها السعيدة طيلة ربع قرن .بيد أن تغّير ما يخاله المرء سرمدياَ حوّل كل شيء بخلاف ما املت .فالولدان كبراَ,و كبرت معهما الهموم .فكان لا بدّ لها من إفناء جسمها ,و يخاصّة عينيها ,على ماكينة الخياطة لتعيلهما و تعلمهما بعد وفاة أبيهما .

لكنهما كانا دائماَ إبنين محبّين لها يقدّران تضحياتها .لو لا زوجتاهما اللتان لا تدري حقاَ لماذا كانتا تكرهانها و توغران صدري أبنيها عليها .لكنهما ما زالا صغيرين ,و إن تجاوزا الخامسة و العشرين ... و هي لا تحقد عليهما ... بل تجد لهما إعذارا.فالمرأتان الصبيتان ليستا من لحمها و دمها .و هما ضاقتا ذرعا بها,لم يعد منها نفع .و هي بحاجة الى من يساعدها لقضاء حاجتها .لعن الله الشيخوخة .كانت تظن قبلا إنها ستبقى قوية كالجمل ,لا تبرك أبدا. أما و قد آل حالها إلى هذا المآل ,فالملوم في كل شيىء هو القدر .فلو بقي زوجها حيا,حتى و لو كان طاعنا في السن مثلها ,لما كان مصيرها المأوى .فالرجل رجل و لو صار شيخا .و جوده يثري حياتها .و هيبته لاتدع مجالا للولدين في هذا المكان .فرفقته رائعته .لم يعد أمام ناظريها سوى أحفادها الذين تحلقوا حولها و أخذوا ينشجون حينما مضى أبواهما بها خارج البيت في الطريق إلى المأوى .
لا ,لم يكن أحفادها و حدهم قابعين في عينيها الدامعتين .بل و لداها أيضا يخطران و هما بعد صغيران كأبنائهما .لقد حبوا في هاتين العينين قبل أن يحبوا على بلاط الدار .إنها تراهما الآن يراجعان دروسهما على مقربة منها حيث تجلس أمام ماكينة الخياطة ,فتشعر بأن الكون كله لا يتعدّى هذين الكائنين الحبيبين .فمن أجلهما عانت و ظلت وفيّة لذكرى أبيهما تأبى إشراك رجل آخر في حياتهما .

ومع نموهما ,كان ينمو في قلبها الأمل فترى المستقبل مشرقا إذ يعوض هذان الولدان عليها كل ما عانته من أجلهما .ليسامحها الله .ماضرهما لو بقيت معهما و مع أحفادها في البيت , بيتها ؟لكنهما معذوران فامرأتاهما ما كنتا تطيقانها .مع أنها لم تكن تسبب لهما أي إزعاج ,إلا في ما ندر .و خصوصا في المدة الأخيرة حيث تكفل أبنائها بأخذها إلى الحمام بدلا من المرأتين الشابتين التين كانتا تقرفان منها . لقد إنصرم النهار الثاني و إقترب الليل بثقله .يا لهذه الساعات الطوال التي سوف تقضيها في عذاب مستديم .لكنه ,في الليل سيتسع رأسها المضطرب لذكريات كثيرة ,أثيرة لديها .لن تتذكر تذمر كنتيها منها ,و منعهما أحفادها من القدوم إليها في حجرة المونة في غياب و لداها .إنها تتذكر فقط كيف كان و لداها في سن أحفادها ,صغيرين يزرعان البسمة على شفتيها و الألق في عينيها .أما كانت تقول لجاراتها إن ضوء الشمس يشرق من عيون طفليها ؟

حتى في وهدة الليل ,وهي تترقب طلوع النهار التالي ,تسمع غطيطهما الوديع في الحجرة التي كثيرا ماتترك ماكينة الخياطة لتمضي إليها ,فتقترب من سريرهما بخطى متمهلة لتدثرهما بالأغطية خشية البرد ,و لتكحل بؤبؤي عينيها المتعبتين برؤيتهما .فقد كانا كل حياتها و لسوف يبقيان هكذا ,حتى ولو جاءا بها الى هذا القبر المفتوح حين كبرا و تزوجا و أنجبا .فحب الام لا يتغير مهما تغيرت الايام ,و مهما إعترى الذاكرة من نسيان .هما الآن نائمان ,كل منهما إلى جانب إمرأته,مطمئن الى أن أطفاله يرقدون في بيته بسلام .

ها قد طلعت الشمس أخيرا.لا شك أن إبنيها وأفراد عائلتهما الآن قد نهضوا من نوم هنييء ,ويتناولون الفطور قبل ذهاب الاولاد إلى المدرسة ,كما كان حالها و هما بعد صغيران و مع كل الاسى المتراكم في صدرها ,و مع هذه الدموع التي تغشى بصرها .أحسّت أنها سعيدة أو ليسا سعيدين مع أبنائهما و زوجتيهما ؟هذا يكفي .إبتسمت المرأة العجوز متغلبة على ما تخثر في مآقيها من دمع ,إذ أدركت الآن إن جدار هذا المأوى لا يمكن أن يفصلها عن الأحبّة الذين عاشت من أجلهم و لسوف تموت بهدوء كيلا تزعجهم .

لعل أهم سرقة في تاريخ الأدب العالمي هي ما اقترفته يدا الشاعر الإنكليزي الأشهر ويليام شكسبير قصة "روميو وجولييت". فهذه القصة كتبها قبل شكسبير بعشرات السنين، الكاتب الإيطالي ماتيو باندللو بعنوان "عاشقا فيرونا". فجاء ِشكسبير وحولها مسرحية بعنوان "روميو وجولييت". وذاع صيت هذا العمل الأدبي في جميع أرجاء العالم. في حين ظلم صاحبه الأصلي الكاتب الإيطالي من حقه في الشهرة التي اقتنصها منه الشاعر الإنكليزي.


أما السرقة الأدبية الضخمة الأخرى فهي "الكوميديا الإلهية" لمؤلفها الإيطالي دانتي اليغيري، وقد اعتمد فيها على الكتاب أبي علاء المعرّي "رسالة الغفران" الذي كان معروفا في الثقافة اللاتينية لعالمين اثنين: أولهما شيوع الثقافة العربية في الأندلس إبان الحكم العربي لإسبانيا وما بعده. والذين نقلوا فلسفة أرسطو اليوناني إلى اللاتينية بشروحات ابن رشد وسموها الأرسطوطالية الرشيدية, لم يكن من العسير عليهم نقل امهات الكتب العربية إلى اللاتينية, ومن بينها :كتاب "رسالة الغفران" للمعري.


يؤكد حكمنا هذا أن شكسبير احتفظ بمسرح قصته "روميو وجولييت" مدينة فيرونا الإيطالية, التي ذكرها باندلو مسرحا لقصته "عاشقا فيرونا", وفي السنوات التي كان فيها الكاتب الإيطالي على قيد الحياة، حيث الواقع الإيطالي بملابس رجاله ونسائه والعادات والقيم كما عرفها الكاتب الإيطالي نفسه.


أما بالنسبة الى مؤلف دانتي "الكوميديا الإلهية" فليس من باب المصادفة أن يذكر هذا الكاتب كل شخصياته ومؤلفاتهم لأدباء من إيطاليا، من العهد الروماني إلى ما بعده مثل فيرجيل وغيره. في حين أن المعري ذكر في كتابه "رسالة الغفران" أسماء شعراء جاهليين وإسلاميين وأعمالهم، من كعب بن زهير وسواه. فيكون الكاتب قد اعتمد في نصه على مؤلف أبي العلاء كليا، وإن صاغه بأسلوب آخر إطاره الفكر المسيحي حول الفردوس والجحيم والمطهر، فيما جعل أبو العلاء لحمة كتابه وسداه الفكر الإسلامي عن الدنيا والآخرة مثل الجنة والنار والطريق الموصول بينهما.


والمعلوم تاريخا أن الثقافة العربية عّمت جنوبي ايطالية في القرن الثاني عشر الميلادي، إبان حكم الأغالبة لها ومن الطبيعي أن تكون الثقافة العربية متداولة في تلك البلاد بشكل واسع. والكتب العربية المهمة كانت بدورها متداولة بين أوساط المفكرين، بل والمثقفين الإيطاليين في ذالك الزمن.


أما جوفاني بوكاتشو الإيطالي مؤلف "الديكاميرون" فقد اعتمد أسلوب وفحوى قصة "ألف ليلة وليلة" بحيث تتناسل القصص من بعضها على غرار ما ذهب إليه المؤلف العربي المجهول. هذا بالطبع ليس عائدا إلى المصادفة وحدها، إنما يعود إلى إطلاع المفكرين والمثقفين الإيطاليين على النص الفريد في تلك المرحلة المضيئة من التاريخ العربي في جنوب إيطاليا.

رسائل أحدث الصفحة الرئيسية