الإعلام مدرسة تتهاوى


كان الإعلام قديماً، ولنقل في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مدرسة يتثقف فيها النشء. إذ كانت الصحف والمجلات التي يشرف عليها محررون عليمون باللغة العربية وآدابها، تزوّد القراء بحصيلة ثقافية وزادٍ معرفي وافرين. وأذكر في هذا المجال أديباً كان أمياً في البدء، لكنّه علّم نفسه بنفسه حين إمتهن بيع الصحف، فتسنّى له تعلّم قراءة العناوين، ومن ثم مواد هذه الصحف والمجلات. وانتهى به الأمر، بعد عدة سنوات، الى أن يغدو مُجيداً للعربية ومطلعاً على الأدب العربي، بل صار يقرض الشعر. وتوّج عصاميته بأن غدا سكرتير تحرير جريدة الحياة التي أسسها كامل مروه.

إنّه الأديب محمد قره علي صاحب كتاب "من وحي الفطرة". وفي ذلك الزمن كان عدد كبير من الناس ينكبون على الإعلام المقروء، وكذلك الإعلام المسموع، ليستنيروا بمصابيحه، بما هم في حاجة ماسة اليه. وأعترف بأنّي كنت من هؤلاء الناس.

وكانت الصحف والمجلات لا تقترف أخطاء لغوية. وكذلك الإذاعات، وبخاصة إذاعة البيبيسي حيث كانت بحد ذاتها مدرسة يتفقه المستمع عبرها الكثير من المعرفة في شتى المجالات. ولعلّ جملة المذيع المشهور الكرمي "قول على قول" ما تزال ترنّ في أسماعي. لكنّ الآن تغيّرت الصورة، وبتنا نسمع مذيعات يقلن: "النساء تأكلن" و "الفتيات تدرسن"، مع أنّ الصحيح هو "يأكلن"، و "يدرسن". كما أخذنا نستمع الى عبارات مغلوطة مثل "موقف عمان" مع أنّ الصحيح هو "موقع" وليس "موقف"، لأنّ الموقع ذو علاقة بالمكان وليس بالزمان كما في الكلمة الأخرى. وأيضاً تقول المذيعات، لله درّهن، "اكتملت جهوزيته" مع أنّ الصحيح هو "جاهزيته".

و إذا تركنا البيبيسي جانباً، وهي أقل الإذاعات أخطاءً، فإنّ الإذاعات العربية الأخرى تقترف من الأخطاء ما يندي له الجبين. إضافة الى أنّ المذيعات الكريمات يخلطن العبارات العاميّة بالعبارات الفصيحة، وغالبا ما يُتَرغلن بمفردات أجنبية، في ميول استعراضية سخيفة مع علمهنّ أنّ البعض – أو قل الكثير – يجهلون اللغة الأجنبية.

وإذا قرأنا بعض الصحف، وخصوصاً الصحف المصرية التي كانت المدرسة الحاضنة قديماً، لوجدنا من الأخطاء القواعدية واللغوية والنحوية ما يجعلنا نحمد الله على أنّ الأصمعي وسيبويه والفراهيدي، هم في دار البقاء. وإلا لطلبوا هؤلاء المخطئين، أو الخاطئين للمبارزة بالسيوف.

كان الإعلام مدرسة عظمى تُعلّم الناس اللغة والثقافة وكل أفانين المعرفة، فإذا بهذه المدرسة تتداعى وتزيد رقعة الجهل عند القراء والمستمعين انتشارا. فألف رحمة على ذلك الزمن الذي كان العاملون في الإعلام مربين وأساتذة للنشئ، قبل أن يتحوّلوا إلى متحذلقين وبارعين في كل شيء، وبخاصة الثرثرة، ما عدا إجادة لغتهم الأم.

0 التعليقات:

رسالة أحدث رسالة أقدم الصفحة الرئيسية